تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

وأنت التي حببت كلّ قصيرة

إليّ ولم يعلم بذاك القصائر

عنيت قصيرات الحجال ولم أرد

قصار الخطا شر النساء البحاتر

والخيام : جمع خيمة ، وهي : أربعة أعواد تنصب وتسقف بشيء من نبات الأرض ، وجمعها خيم ، كتمرة وتمر ، وتجمع الخيم على خيام فهو جمع الجمع ؛ وأمّا ما يتخذ من شعر أو وبر أو نحوه فيقال له : خباء ، وقد يطلق عليه خيمة تجوّزا. وقال عمر : الخيمة درة مجوّفة. وقال ابن عباس قال : وهي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وفي الحديث : «أنّ في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها : ستون ميلا ؛ في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون» (١). وقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي : قال : بلغنا أن سحابة أمطرت من العرش فخلقن أي : الحور العين من قطرات الرحمة ، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطىء الأنهار سعتها أربعون ميلا وليس لها باب ، حتى إذا دخل وليّ الله تعالى بالخيمة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم وليّ الله أنّ أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها ، فهي مقصورة قد قصرها الله عن أبصار المخلوقين. وقال مجاهد : معناه قصرن أطرافهنّ وأنفسهنّ على أزواجهنّ فلا يبغين بدلا. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنّ امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ، ولملأت ما بينهما ريحا ، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» (٢).

فائدة : اختلفوا أيما أكثر حسنا وأتم جمالا ، الحور أم الآدميات ؛ فقيل : الحور لما ذكر في وصفهنّ في القرآن والسنة ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه في صلاة الجنازة : «وأبدله زوجا خيرا من زوجه» (٣). وقيل : الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف روي ذلك مرفوعا. وقيل : إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النبيين والمؤمنين ، يخلقن في الآخرة على أحسن صورة ، قاله الحسن البصري ، قال ابن عادل : والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا ، إنما هنّ مخلوقات في الجنة لأنّ الله تعالى قال : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات ا. ه. لكن مرّ أنه لم يطمثهن بعد إنشائهن خلقا آخر وعلى هذا لا دليل في ذلك.

(فَبِأَيِّ آلاءِ) أي : نعم (رَبِّكُما) الذي صوركم فأحسن صوركم (تُكَذِّبانِ) أبهذه النعم أم بغيرها؟.

(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) كحور الجنتين الأوليين وضميرهم في قبلهم لأصحاب الجنتين.

(فَبِأَيِّ آلاءِ) أي نعم (رَبِّكُما) الذي جعل لكم في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٥ باب ٢ ، وبدء الخلق باب ٨ ، والترمذي في الجنة باب ٣ ، والدارمي في الرقاق باب ١٠٩ ، وأحمد في المسند ٤ / ٤٠٠ ، ٤١١ ، ٤١٩.

(٢) أخرجه البخاري في الجهاد باب ٦ ، والرقاق باب ٥١ ، والترمذي في فضائل الجهاد حديث ١٦٥١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٨٣ ، ٣ / ١٤١ ، ١٥٧ ، ٢٦٤.

(٣) روي الحديث بلفظ : «وأبدله أهلا خيرا من أهله» ، أخرجه مسلم في الجنائز حديث ٩٦٣ ، والنسائي في الجنائز حديث ١٩٨٣ ، وأحمد في المسند ٦ / ٢٣.

١٨١

ولا خطر على قلب بشر (تُكَذِّبانِ) أبهذه النعم أم بغيرها.

(مُتَّكِئِينَ) أي لهم ما ذكر حالة الاتكاء والعامل في الحال محذوف ، أي : ينعمون متكئين (عَلى رَفْرَفٍ) أي : ثياب ناعمة وفرش رقيقة النسج من الديباج لينة ووسائد عظيمة ، ورياض باهرة ، وبسط لها أطراف فاضلة ، وهو جمع رفرفة ، لأن الله تعالى وصفه بالجمع بقوله : (خُضْرٍ) ووصفه بذلك لأنّ الخضرة أحسن الألوان وأبهجها ، وقال الجوهري : هو ثياب خضر تتخذ منها المحابس الواحدة رفرفة واشتقاقه من رف الطائر أي : ارتفع في الهواء ورفرف بجناحيه إذا نشرهما للطيران ؛ وقيل : الرفرف طرف الفسطاط والخباء الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد ؛ وفي الخبر في وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فرفع الرفرف ، فرأينا وجهه كأنه ورقة» (١) ، أي : رفع طرف الفسطاط وقال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول : الرفرف أعظم خطرا من الفرش فذكر في الأوليين (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) وقال هنا : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الولي رفرف به أي طار به حيثما يريد كالمرجاح. وروي في حديث المعراج أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغ سدرة المنتهى ، جاءه الرفرف فتناوله من جبريل وطار به إلى سند العرش فذكر أنه قال : «طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي على ربي» (٢). أي : في محل تنزلات رحمة ربي ثم لما جاء الانصراف تناوله فطار به خفضا ورفعا يهوي به ، حتى أداه إلى جبريل عليه‌السلام ؛ فالرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى له خواص الأمور من الدنوّ والقرب ؛ كما أنّ البراق دابة تركبها الأنبياء عليهم‌السلام مخصوصة بذلك ، وهذا الرفرف الذي سخر لأهل الجنتين الدائبتين هو متكؤهما وفرشهما يرفرف بالوليّ على حافات تلك الأنهار حيث يشاء إلى خيام أزواجه.

وقوله تعالى : (وَعَبْقَرِيٍ) منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجنّ فينسبون إليه كل شيء عجب ؛ قال في القاموس : عبقر موضع كثير الجنّ وقرية ثيابها في غاية الحسن ، والعبقري الكامل من كل شيء ؛ وقال الخليل : هو كلّ جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم ؛ وقال قطرب ليس هو من المنسوب بل هو بمنزلة كرسي وبختي ا. ه. والمراد به : الجنس ، ولذلك قال تعالى : (حِسانٍ) حملا على المعنى أي هي في غاية من كمال الصنعة وحسن المنظر لا توصف.

(فَبِأَيِّ آلاءِ) أي : نعم (رَبِّكُما) المحسن الواحد الذي لا محسن غيره ولا إحسان إلا منه (تُكَذِّبانِ) أبشيء من هذه النعم أم بغيرها؟

ولما دلّ ما ذكر في هذه السورة من النعم على إحاطة مبدعها بأوصاف الكمال وختم نعم الدنيا بقوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٧] وفيه إشارة إلى أنّ الباقي هو الله تعالى وأنّ الدنيا فانية ختم نعيم الآخرة بقوله عز من قائل : (تَبارَكَ) قال ابن برّجان : تفاعل من البركة ولا يكاد يذكره جل ذكره إلا عند أمر معجب ا. ه. ومعناه ثبت ثباتا لا تسع العقول وصفه.

ولما كان تعظيم الاسم أبلغ في تعظيم المسمى قال تعالى : (اسْمُ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك

__________________

(١) انظر القرطبي في تفسيره ١٧ / ١٩١.

(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

١٨٢

بإنزال هذا القرآن الذي جبلك على متابعته فصرت مظهرا له وصار خلقا لك فصار إحسانه إليك فوق الوصف ؛ وقيل : لفظ اسم زائد وجرى عليه الجلال المحلي والأوّل أولى.

(ذِي الْجَلالِ) أي : العظمة الباهرة (وَالْإِكْرامِ) قال القرطبي : كأنه يريد به الاسم الذي افتتح به السورة ، فقال : (الرَّحْمنِ) فافتتح بهذا الاسم فوصف خلق الإنسان والجنّ ، وخلق السموات والأرض وصنعه ؛ وأنه تعالى كل يوم هو في شأن ، ووصف تدبيره فيهم ؛ ثم وصف يوم القيامة ، وأهوالها ، وصفة النار ، ثم ختمها بصفة الجنان.

ثم قال في آخر الصفة (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي : هذا لاسم الذي افتتح به هذه السورة ، كأنه يعلمهم أنّ هذا كله خرج لكم من رحمتي ، فمن رحمتي خلقتكم ، وخلقت لكم السماء والأرض والخليقة والجنة والنار فهذا كله لكم من اسم الرحمن فمدح اسمه فقال تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي : جليل في ذاته كريم في أفعاله وقرأ ابن عامر : بالواو رفعا صفة للاسم والباقون بالياء خفضا صفة لرب ، فإنه هو الموصوف بذلك. روى الثعلبي عن علي أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره» (١). وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري : من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الرحمن أدى شكر ما أنعم الله عليه» (٢) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه التبريزي في مشكاة المصابيح ٢١٨٠ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٤٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٦٣٨ ، والقرطبي في تفسيره ١٧ / ١٥١.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٤٥٣.

١٨٣

سورة الواقعة

مكية ، في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء ؛ وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) وقال الكلبي : مكية إلا أربع آيات ؛ منها آيتان (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) نزلتا في سفره إلى مكة ؛ وقوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) نزلتا في سفره إلى المدينة ، وقدّمنا أنّ في المدني والمكي اصطلاحين ، وأنّ المشهور أنّ المكي ما نزل قبل الهجرة ؛ والمدني ما نزل بعدها وهي ست وتسعون آية ؛ قال الجلال المحلي : وهي ست أو سبع أو تسع وتسعون آية وثلاثمئة وثمان وتسعون كلمة ، وألف وسبعمائة وثلاثة أحرف.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له الكمال كله ففاوت بين الناس في الأحوال (الرَّحْمنِ) الذي عم بنعمة البيان وفاضل في قبولها بين أهل الإدبار وأهل الإقبال (الرَّحِيمِ) الذي قرب أهل حزبه ففازوا بمحاسن الأقوال والأفعال.

ولما قسم سبحانه الناس في تلك السورة إلى ثلاثة أصناف مجرمين وسابقين ولاحقين ، شرح أحوالهم في هذه السورة وبين الوقت الذي يظهر فيه إكرامه وانتقامه بقوله تعالى :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي : التي لا بد من وقوعها ولا واقع يستحق أن يسمى الواقعة بلام الكمال وتاء المبالغة غيرها ، وهي النفخة الثانية التي يكون عنها البعث الأكبر الذي هو القيامة الجامعة لجميع الخلق ، فسميت واقعة لتحقق وقوعها ، وقيل : لكثرة ما يقع فيها من الشدائد ، وانتصاب إذا بمحذوف مثل اذكر أو كان كيت وكيت ، وقال الجرجاني : إذا صلة كقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] و (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] وهو كما يقال : جاء الصوم أي دنا وقرب

١٨٤

وقوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) مصدر بمعنى الكذب والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر كقوله تعالى : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) [الغاشية : ١١] أي : لغو والمعنى : ليس لها كذب قاله الكسائي ، أو صفة والموصوف محذوف أي : ليس لوقعتها حال كاذبة ، أي : كل من يخبر عن وقعتها صادق ، أو نفس كاذبة بأن تنفيها كما نفتها في الدنيا وقال الزجاج : ليس لوقعتها كاذبة أي : لا يردها شيء ، وقيل : إنّ قيامها جد لا هزل وقوله تعالى : (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) تقرير لعظمتها وهو خبر لمبتدأ محذوف أي : هي ، قال عكرمة ومقاتل : خفضت الصوت فأسمعت من دنا ، ورفعت الصوت فأسمعت من نأى يعني : أسمعت القريب والبعيد. وعن السدي خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين.

وقال قتادة : خفضت أقواما في عذاب الله تعالى ورفعت أقواما إلى طاعة الله تعالى. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : خفضت أعداء الله تعالى في النار ورفعت أولياء الله تعالى في الجنة. وقال ابن عطاء : خفضت قوما بالعدل ورفعت آخرين بالفضل. ولا مانع أنّ كل ذلك موجود فيها والرفع والخفض يستعملان عند العرب في المكان والمكانة والعز والإهانة ؛ ونسب سبحانه وتعالى الخفض والرفع إلى القيامة توسعا ومجازا على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لا يمكن منه الفعل ، يقولون : ليل قائم ونهار صائم وفي التنزيل : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] والخافض والرافع في الحقيقة هو الله تعالى ، واللام في قوله تعالى : (لِوَقْعَتِها) إمّا للتعليل أي : لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدّة وقعتها ، وإمّا للتعدية كقولك ليس لزيد ضارب ، فيكون التقدير إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها أمر يوجد لها كاذب إذا أخبر عنه.

قال الرازي : وعلى هذا لا تكون ليس عاملة في إذا وهي بمعنى ليس لها كاذب (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ) أي : كلها على سعتها وثقلها بأيسر أمر (رَجًّا) أي : حركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل ، قال بعض المفسرين : ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم ما عليها وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها ، والرجرجة : الاضطراب ، وارتج البحر وغيره واضطرب وفي الحديث : «من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له» (١). يعني إذا اضطربت أمواجه والظرف متعلق بخافضة أو بدل من إذا وقعت.

ولما ذكر حركتها المزعجة أتبعها غايتها بقوله تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي : فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لتّه ؛ قال ابن عباس ومجاهد : كما يبس الدقيق أي : يلت ، والبسيسة السويق ، أو الدقيق يلت بالسمن أو الزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زادا قال الراجز (٢):

لا تخبزا خبزا وبسّا بسّا

ولا تطيلا بمناخ حبسا

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٧٩ ، ٢٧١ ، والقرطبي في تفسير ١٢ / ٢٨٤ ، ١٧ / ١٩٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤١٣٧١.

(٢) الرجز لبعض اللصوص في الحيوان ٤ / ٤٩٠ ، وبلا نسبة في لسان العرب (خبز) ، (بحسس) ، (حدس) ، وتهذيب اللغة ٧ / ٢١٥ ، ٢١٦ ، ١٢ / ٣١٦ ، وتاج العروس (خبز) ، (حدس) ، (بسس) ، وديوان الأدب ٢ / ١٦٠ ، ٣ / ١٢٤.

١٨٥

أو سيقت وسيرت من بس الغنم إذا ساقها وبست الأبل وأبسستها لغتان إذا زجرتها ، وقلت : بس بس قاله أبو زيد ؛ وقال الحسن : بست قلعت من أصلها فذهبت ، ونظيرها ينسفها ربي نسفا ؛ وقال عطية : بسطت بالرمل والتراب (فَكانَتْ) أي : بسبب ذلك (هَباءً) أي : غبارا هو في غاية الانسحاق وإلى شدّة لطافته أشار بصفته فقال تعالى : (مُنْبَثًّا) أي : منتشر متفرّقا بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه ، فهو كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من كوّة ؛ وعن ابن عباس : هو ما تطاير من النار إذا أضرمت يطير منها شرر ، فإذا وقع لم يكن شيئا (وَكُنْتُمْ) أي : قسمتم بما كان في جبلاتكم وطبائعكم في الدنيا (أَزْواجاً) أي : أصنافا (ثَلاثَةً) كل صنف يشاكل ما هو منه كما يشاكل الزوج الزوجة ؛ قال البيضاوي : وكل صنف يكون أو يذكر مع صنف آخر زوج.

ثم بين من هم بقوله تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم مبتدأ ، وقوله تعالى : (ما) استفهام فيه تعظيم مبتدأ ثان ، وقوله تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأوّل ، وتكرير المبتدأ بلفظه مغن عن الضمير ، ومثله (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ـ ٢](الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ) [القارعة : ١ ـ ٢] ولا يكون ذلك إلا في مواضع التعظيم.

ولما ذكر الناجين بقسميهم أتبعهم أضدادهم بقوله تعالى : (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي : الشمال وهم الذي يؤتون كتبهم بشمائلهم وقوله تعالى : (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) تحقير لشأنه بدخولهم النار ، وقال السدي : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، والمشأمة الميسرة وكذا الشامة والعرب تقول لليد الشمال : الشؤمي وللجانب الشمال الأشآم وكذلك يقال لما جاء عن اليمين اليمن ولما جاء عن الشمال الشؤم ، قال البغوي : ومنه سمى الشأم واليمن ، لأنّ اليمن عن يمين الكعبة ، والشام عن شمالها ؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرّية من صلبه ، فقال الله تعالى لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي ؛ وقال زيد بن أسلم : هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن ؛ وقال ابن جريج : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) هم أصحاب الحسنات (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) هم (أصحاب السيئات).

وفي صحيح مسلم من حديث الإسراء عن أبي ذر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال : فإذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى قال : فقال : مرحبا بالنبيّ الصالح والابن الصالح ، قال : قلت : يا جبريل من هذا؟ قال : آدم عليه‌السلام وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه ، فأهل اليمين أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله أهل النار» (١). وذكر الحديث وقال المبرّد : أصحاب الميمنة : أصحاب التقدّم وأصحاب المشأمة : أصحاب التأخر والعرب تقول اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك ، أي : اجعلني من المتقدّمين ، ولا تجعلني من المتأخرين.

تنبيه : الفاء في قوله تعالى : (فَأَصْحابُ) تدل على التقسيم وبيان ما ورد عليه التقسيم ، كأنه قال : أزواجا ثلاثة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون ، ثم بين حال كل قسم فقال : فأما أصحاب الميمنة وترك التقسيم أولا واكتفى بما يدل عليه بأنّ ذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٤٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٦٣.

١٨٦

فإن قيل : ما الحكمة في اختيار لفظ المشأمة في مقابلة الميمنة مع أنه قال في بيان أحوالهم : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال؟ أجيب : بأنّ اليمين وضع للجانب المعروف ، واستعملوا منه ألفاظا في مواضع ، فقالوا : هذا ميمون تيمنا به ، ووضعوا مقابلة اليمين اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه ، واستعملوا منه ألفاظا تشاؤما به فذكر المشأمة في مقابلة الميمنة ، وذكر الشمال في مقابلة اليمين ، فاستعمل كل لفظ مع مقابلة.

ولما ذكر تعالى القسمين وكان كل منهما قسمين ذكر أعلى أهل القسم الأوّل ترغيبا في حسن حالهم ولم يقسم أهل المشأمة ترهيبا في سوء حالهم فقال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ) أي : إلى أعمال الطاعة مبتدأ وقوله تعالى : (السَّابِقُونَ) تأكيد عن المهدوي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» (١). وقال محمد بن كعب القرظي : هم الأنبياء عليهم‌السلام ، وقال الحسن وقتادة : السابقون إلى الإيمان من كل أمّة ؛ وقال محمد بن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) [التوبة : ١٠٠] وقال مجاهد والضحاك : هم السابقون إلى الجهاد وأوّل الناس رواحا إلى الصلاة ؛ وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : هم السابقون إلى الصلوات الخمس ؛ وقال سعيد بن جبير : إلى التوبة وأعمال البرّ ، قال تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : ١٣٣] ثم أثنى عليهم فقال تعالى (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) [المؤمنون : ٦١] وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هم أربعة : منهم سابق أمّة موسى عليه‌السلام وهو حزقيل مؤمن آل فرعون ، وسابق أمّة عيسى عليه‌السلام وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية ، وسابقا أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهما : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال سميط بن عجلان : الناس ثلاثة : رجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرب ، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين ، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب الشمال. وروي عن كعب قال : هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة ، وقيل : هم أوّل الناس رواحا إلى المسجد وأولهم خروجا في سبيل الله.

وخبر المبتدأ (أُولئِكَ) أي : العالو الرتبة جدا (الْمُقَرَّبُونَ) أي : الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم واصطفاهم الله تعالى للسبق ، فأرادهم لقربه ولو لا فضله في تقريبهم لم يكونوا سابقين ؛ قال الرازي في اللوامع : المقرّبون تخلصوا من نفوسهم وأعمالهم كلها لله تعالى دينا ودنيا من حق الله تعالى ، وحق الناس وكلاهما عندهم حق الله تعالى ، والدنيا عندهم آخرتهم لأنهم يراقبون ما يبدو لهم من ملكوته فيتلقونه بالرضا والانقياد ، وهم صنفان : صنف قلوبهم في جلاله وعظمته هائمة قد ملكتهم هيبته فالحق يستعملهم في وصف آخر قد أرخى من عنانه والأمر عليه أسهل لأنه قد جاوز بقلبه هذه الخطة ، ومحله أعلى فهو أمين الله تعالى في أرضه فيكون عليه أوسع ا. ه.

ثم بين تقريبه لهم بقوله تعالى : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي : الذي لا كدر فيه بوجه ولا منغص ولما ذكر السابقين فصلهم بقوله تعالى : (ثُلَّةٌ) أي : جماعة وقيدها الزمخشري بالكثيرة وأنشد (٢) :

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٦٧ ، ٦٩.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

١٨٧

وجاءت إليهم ثلة خندفية

تجيش كتيار من السيل مزبد

قال ابن عادل : ولم يقيدها غيره بل صرّح بأنها الجماعة ؛ قلت : أو كثرت ثم قال : والكثرة التي فهمها الزمخشري قد تكون من السياق ا. ه. لكن قال البغوي : والثلة جماعة غير محصورة العدد (مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي : من الأمم السابقة من لدن آدم إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النبيين عليهم‌السلام ومن آمن بهم (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وهم من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد كان الأنبياء عليهم‌السلام مئة ألف ونيفا وعشرين ألفا ، وكان من خرج مع موسى عليه‌السلام من مصر وهو مؤمن به من الرجال المقاتلين ممن هو فوق العشرين ودون الثمانين ست مئة ألف ، فما ظنك بمن عداهم من الشيوخ ومن دون العشرين من البالغين الصبيان ومن النساء ، فكيف بمن عداه من سائر النبيين عليهم‌السلام المجدّدين من بني إسرائيل وغيرهم. قال البيضاوي : ولا يخالف ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : «أمتي يكثرون سائر الأمم» (١). لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة ، وتابعوا هذه الأمّة أكثر من تابعيهم.

قيل : لما نزلت هذه الآية شق على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني» (٢). رواه أبو هريرة رضي الله عنه. ذكره الماوردي وغيره ومعناه ثابت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود وكأنه أراد أنها منسوخة ؛ قال الرازي : وهذا في غاية الضعف لأنّ عدد أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان بالنسبة إلى ما مضى في غاية القلة والمراد بالأولين الأنبياء وكبار أصحابهم وهم إذا اجتمعوا كانوا أكثر من السابقين من هذه الأمّة ولأنّ هذا خبر والخبر لا ينسخ ، وقال الحسن : سابقوا من مضى أكثر من سابقينا فلذا قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وقال في أصحاب اليمين : وهم سوى السابقين (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى لأرجو أن تكون أمتي شطر أهل الجنة ثم تلا (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وروى الطبراني : أنّ الثلة والقليل كلاهما من هذه الأمة فتكون الصحابة كلهم من هذه الثلة ، وكذا من تبعهم بإحسان إلى رأس القرن الثالث وهم لا يحصيهم إلا الله تعالى ؛ ومن المعلوم أنه تناقص الأمر بعد ذلك إلى أن صار السابق في الناس أقل من القليل لرجوع الإسلام إلى الحال التي بدأ عليها من الغربة ، «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» (٣) أي وهم الذين إذا فسد الناس صلحوا ، كما فسر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، وقال أبو بكر : كلا الثلتين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمنهم من هو في أول أمته ، ومنهم من هو في آخرها ، وهو مثل قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) [فاطر : ٣٢] وقيل : المراد بالأولين (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وبالآخرين (ذُرِّيَّاتِهِمْ) الملحقون بهم في قوله تعالى :

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٤٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٢١ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٨٣.

(٣) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٣٢ ، وابن ماجه حديث ٣٩٨٦ ، ٣٩٨٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٩٨ ، ٤ / ٧٣.

١٨٨

(وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) [الطور : ٢١] ألحقنا بهم ذرياتهم ، واشتقاق الثلة وهي مبتدأ من الثل وهو القطع والخبر (عَلى سُرُرٍ) جمع سرير وهو ما يجعل للإنسان من المقاعد العالية المصنوعة للراحة والكرامة (مَوْضُونَةٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : منسوجة بالذهب ، وقال عكرمة : مشبكة بالدرّ والياقوت ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا : موضونة ، أي : مصفوفة لقوله تعالى في موضع آخر : (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الصافات : ٤٤] وقيل : منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدرّ والياقوت ، والموضونة المنسوجة ، وأصله : من وضنت الشيء أي : ركبت بعضه على بعض ، ومنه قيل للدرع موضونة لتركب حلقها قال الأعشى (١) :

ومن نسج داود موضونة

تسير مع الحيّ عيرا فعيرا

ومنه أيضا وضين الناقة وهو حزامها لتراكب طاقاته ، قال عمر رضي الله عنه : وهو مار بواد محسر (٢) :

إليك تعد وقلقا وضينها

معترضا في بطنها جنينها

مخالفا دين النصارى دينها

رواه البيهقي. ومعناه أن ناقتي تعدو إليك مسرعة في طاعتك قلقا ، وضينها وهو حبل كالحزام من كثرة السير والإقبال التام والاجتهاد البالغ في طاعتك ؛ والمراد : صاحب الناقة فيسنّ للمار بوادي محسر أن يقول هذا الكلام الذي قاله عمر رضى الله تعالى عنه.

ولما ذكر تعالى السرر وبين عظمتها ذكر غايتها فقال سبحانه : (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) أي : السرر على الجنب أو غيره كحال من يكون على كرسي فيوضع تحته شيء آخر للاتكاء عليه (مُتَقابِلِينَ) فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض ، وقال مجاهد وغيره : هذا في المؤمن وزوجته وأهله أي : يتكؤون متقابلين ، قال الكلبي طول كل سرير ثلث مئة ذراع ، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت وقيل : إنهم صاروا أرواحا نورانية صافية ليس لهم أدبار ولا ظهور.

تنبيه : (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) حالان من الضمير في على سرر ، ويجوز أن تكون حالا متداخلة فيكون متقابلين حالا من ضمير متكئين ، ثم بين تعالى أنهم في غاية الراحة بقوله تعالى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي : لكفاية كل ما يحتاجون إليه (وِلْدانٌ) أي : على أحسن صورة وزي وهيئة (مُخَلَّدُونَ) قد حكم الله تعالى ببقائهم على ما هم عليه من الهيئة على شكل الأولاد قال الحسن والكلبي : لا يهرمون ولا يتغيرون ، ومنه قول امرئ القيس (٣) :

وهل ينعمن إلا سعيد مخلد

قليل الهموم ما يبيت بأوجال

وقال سعيد بن جبير : مخلدون مقرّطون ، يقال للقرط : الخلد ، والقرط ما يجعل في الأذنين من الحلق ؛ وقيل : مقرّطون أي ممنطقون من المناطق والمنطقة ما يجعل في الوسط ؛ وأكثر المفسرين أنهم على سن واحد أنشأهم الله تعالى لأهل الجنة ، يطوفون عليهم نشؤا من غير ولادة فيها لأنّ الجنة لا ولادة فيها ؛ وقال عليّ بن أبي طالب والحسن البصري رضى الله عنهم : الولدان

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو في ديوان الأعشى ص ١٤٩ ، ولسان العرب (وضن) ، وتاج العروس (وضن).

(٢) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (قلق) ، (ودن) ، (وضن) ، وتاج العروس (قلق) ، (وضن).

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرئ القيس ص ٢٧.

١٨٩

ههنا ولدان المسلمين الذي يموتون صغارا ولا حسنة لهم ولا سيئة ؛ وقال سلمان الفارسي : أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة ؛ قال الحسن : لم تكن لهم حسنات يجازون بها ولا سيآت يعاقبون عليها فوضعوا هذا الموضع. والمقصود أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة وقوله تعالى : (بِأَكْوابٍ) متعلق بيطوفون ، والأكواب جمع كوب وهي كيزان مستديرة الأفواه بلا عرى ولا خراطيم ، لا يعوق الشارب منها عائق عن شرب من أي موضع. أراد منها ، فلا يحتاج أن يحول الإناء عن الحالة التي تناوله بها ليشرب ، وقوله تعالى : (وَأَبارِيقَ) جمع إبريق ، وهي أوان لها عرى وخراطيم فيها من أنواع المشارب ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، سمى بذلك لبريق لونه من صفائه (وَكَأْسٍ) أي : إناء شراب الخمر (مِنْ مَعِينٍ) أي : خمر صافية صفاء الماء ليس يتكلف عصرها جارية من منبع لا ينقطع أبدا.

فإن قيل : كيف جمع الأكواب والأباريق وأفرد الكأس؟ أجيب : أنّ ذلك على عادة أهل الشرب فإنهم يعدون الخمر في أوان كثيرة ويشربون بكأس واحد ، وفيها مباينتهم لأهل الدنيا من حيث إنهم يطوفون بالأكواب والأباريق ولا تثقل عليهم بخلاف أهل الدنيا (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أي : بسببها قال الزمخشري وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها ، والصداع : هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه ، والخمر تؤثر فيه ؛ قال علقمة بن عبدة في وصف الخمر (١) :

تشفى الصداع ولا يؤذيك صالتها

ولا يخالطها في الرأس تدويم

قال أبو حيان : هذه صفة خمر الجنة كذا قال لي الشيخ أبو جعفر بن الزبير ؛ والمعنى : لا تتصدّع رؤوسهم من شربها فهي لذة بلا أذى بخلاف خمر الدنيا ؛ وقيل : لا يتفرقون عنها (وَلا يُنْزِفُونَ) أي : تذهب بعقولهم بوجه من الوجوه أي : يفرغ شرابهم من نزفت البئر إذا نزح ماؤها كله ؛ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الزاي والباقون بفتحها (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) أي : يختارون ما يشتهون من الفواكه لكثرتها ؛ وقيل : المعنى : وفاكهة متخيرة مرضية والتخير الاختيار (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي : يتمنون ؛ قال ابن عباس رضى الله عنهما : يخطر على قلبه لحم الطير فيصير ممثلا بين يديه على ما اشتهى ، ويقال : إنه يقع على صحفة الرجل فيأكل منه ما يشتهي ثم يطير فيذهب ؛ فإن قيل : ما الحكمة في تخصيص الفاكهة بالتخيير ، واللحم بالاشتهاء؟ أجيب : بأنّ اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم ، وإذا حضرا عند الشبعان تميل نفسه إلى الفاكهة ، فالجائع مشته ، والشبعان غير مشته بل هو مختار ، وأهل الجنة إنما يأكلون لا من جوع بل للتفكه فميلهم للفاكهة أكثر فيتخيرونها ، ولهذا ذكرت في مواضع كثيرة في القرآن بخلاف اللحم ، وإذا اشتهاه حضر بين يديه على ما يشتهيه فتميل نفسه إليه أدنى ميل ، ولهذا قدم الفاكهة على اللحم.

فإن قيل : الفاكهة واللحم لا يطوف بهما الولدان ، والعطف يقتضي ذلك؟ أجيب : بأنّ الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حال الشرب فجاز أن يطوف بهما الولدان فيناولونهم الفواكه الغريبة واللحوم العجيبة لا للأكل بل للإكرام كما يضع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده ، أو يكون معطوفا على المعنى في قوله : (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي : مقرّبون في جنات النعيم وفاكهة ولحم ، أي : في هذا النعيم يتقلبون.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان علقمة بن عبدة ص ٧٣.

١٩٠

ولما لم يكن بعد الأكل والشراب أشهى من النساء قال تعالى : (وَحُورٌ) أي : نساء شديدات سواد العيون وبياضها (عِينٌ) أي : ضخام العيون وقرأ حمزة والكسائي بخفض الاسمين عطفا على سرر ، فإنّ النساء في معنى المتكأ لأنهن يسمين فراشا ، والباقون بالرفع عطفا على ولدان (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي : المخزون في الصدف المصون الذي لم تمسه الأيدي ولم تقع عليه الشمس والهواء ، فيكون في نهاية الصفاء ؛ قال البغوي : ويروى أنه يسطع نور في الجنة فيقولون : ما هذا؟ فيقال : ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها ويروى أنّ الحوراء إذا مشت يسمع تقديس الخلاخل من ساقها ، وتمجيد الأسورة من ساعديها ، وأنّ عقد الياقوت يضحك في نحرها ، وفي رجليها نعلان من ذهب شراكهما من لؤلؤ يصران بالتسبيح. ولما بالغ في وصف جزائهم بالحسن والصفاء دل على أنّ أعمالهم كانت كذلك لأنّ الجزاء من جنس العمل فقال تعالى : (جَزاءً) أي : فعل ذلك لهم لأجل الجزاء (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : يجدّدون عمله على جهة الاستمرار ، قالت المعتزلة : هذا يدل على أنّ إيصال الثواب واجب على الله تعالى ، لأنّ الجزاء لا يجوز الإخلال به ، وأجيبوا بأنه لو صح ما ذكروه لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة ، لأنّ العقل إذا حكم بأنّ ترك الجزاء قبيح ، وعلم بالعقل أنّ القبيح من الله تعالى لا يوجد علم أنّ الله تعالى يعطي هذه الأشياء لأنها جزاؤه ، وإيصال الجزاء واجب ، فكان لا يصح التمدح به (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) أي : شيئا مما لا ينفع واللغو الساقط (وَلا تَأْثِيماً) أي : ما يحصل به الإثم أو النسبة إلى الأثم بل حركاتهم وسكناتهم كلها في رضا الله تعالى ؛ وقال ابن عباس رضى الله عنهما : باطلا وكذبا ؛ قال محمد بن كعب : ولا تأثيما أي : لا يؤثم بعضهم بعضا ؛ وقال مجاهد : لا يسمعون شتما ولا مأثما وقوله تعالى : (إِلَّا قِيلاً) فيه قولان أحدهما : أنه استثناء منقطع وهذا واضح لأنه لم يندرج تحت اللغو والتأثيم ، والثاني : أنه متصل وفيه بعد ؛ قال ابن عادل فكان هذا رأى أنّ الأصل لا يسمعون فيها كلاما فاندرج عنده فيه ؛ ثم بين تعالى ذلك بقوله : (سَلاماً سَلاماً) أي قولا سلاما ، قال عطاء : يحيى بعضهم بعضا بالسلام ، أو تحيهم الملائكة ، أو يحييهم ربهم ؛ ودل على دوامه بتكريره فقال تعالى : (سَلاماً) ففيه إشارة إلى كثرة السلام عليهم ولهذا لم يكرر في قوله تعالى (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] وقال القرطبي : السلام الثاني بدل من الأوّل ، والمعنى : إلا قولا يسلم فيه من اللغو.

ولما بين حال السابقين شرع في بيان حال أصحاب اليمين فقال تعالى :

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨))

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ) ثم فخم أمرهم وأعلى مدحهم لتعظيم جزائهم فقال تعالى : (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) فإن قيل : ما الحكمة في ذكرهم بلفظ أصحاب الميمنة عند تقسيم الأزواج الثلاثة

١٩١

وبلفظ أصحاب اليمين عند ذكر الإنعام؟ أجيب : بأن ذلك تفنن في العبارة والمعنى واحد (فِي سِدْرٍ) أي : شجر نبق (مَخْضُودٍ) أي : لا شوك فيه كأنه خضد شوكه أي : قطع ونزع منه ؛ قال ابن المبارك : أخبرنا صفوان عن سليم بن عامر قال : كان أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : إنا لينفعنا الأعراب ومسائلهم ؛ قال : أقبل أعرابي يوما فقال : يا رسول الله لقد ذكر الله تعالى في القرآن شجرة مؤذية ، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما هي؟» قال : السدر فإن له شوكا مؤذيا ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو ليس يقول سدر مخضود خضض الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها تنبت ثمرا على اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر» (١) ؛ وقال أبو العالية والضحاك : نظر المسلمون إلى وج وهو واد بالطائف مخصب فأعجبهم سدره فقالوا يا ليت لنا مثل هذا فنزلت. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة وما فيها (٢) :

إن الحدائق في الجنان ظليلة

فيها الكواعب سدرها مخضود

قال مجاهد : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) هو الموقر حملا الذي تنثني أغصانه كثرة حمله من خضض الغصن إذا ثناه وهو رطب ؛ وقال سعيد بن جبير : ثمرها أعظم من القلال (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) أي : منظوم بالحمل من أعلاه إلى أسفله ليست له ساق بارزة متراكم يتركب بعضه على بعض على ترتيب هو في غاية الإعجاب ، والطلح جمع الطلحة ؛ قال عليّ وابن عباس رضى الله عنهم وأكثر المفسرين : الطلح شجر الموز واحده طلحة ؛ وقال الحسن : ليس هو موزا ولكنه شجر له ظل بارد رطب ؛ وقال الفرّاء وأبو عبيدة : شجر عظيم كثير الشوك والطلح كل شجر عظيم له شوك ؛ وقال الزجاج : هو شجر أم غيلان ؛ قال مجاهد : ولكن ثمرها أحلى من العسل ، وقال الزجاج : لها نور طيب جدّا خوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله إلا أنّ فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا ؛ وقال السدي : طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل ؛ وقال مسروق : أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ثمر كله كلما أكلت ثمرة عاد مكانها أحسن منها (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) أي : دائم لا يزول ولا تنسخه الشمس لقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) [الفرقان : ٤٥] كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ؛ وقيل : الظل ليس ظلّ أشجار بل ظلّ يخلقه الله تعالى ، قال الربيع بن أنس رضى الله عنه : يعني ظلّ العرش ؛ وقال عمرو بن ميمون رضى الله عنه : مسيرة سبعين ألف سنة ؛ وقال أبو عبيدة : تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل والشيء الذي لا ينقطع ممدود قال الشاعر (٣) :

غلب العزاء وكان غير مغلب

دهر طويل دائم ممدود

وفي صحيح الترمذي وغيره ، عن أبي هريرة رضى الله عنه : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها ، واقرؤوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» (٤) في هذا

__________________

(١) أخرجه بنحوه السيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٥٦ ،

(٢) البيت من الكامل ، وهو في ديوان أمية بن أبي الصلت ص ٢٩.

(٣) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٤) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٨٨١ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٩٢ ، والدارمي في الرقاق حديث ٢٨٣٨.

١٩٢

الحديث ردّ على من يقول : إنّ الأشجار لا ظل لها وقد سئل السبكي عن الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا إذا تراءت له شجرة يقول : يا رب أدنني من هذه لأستظل في ظلها ، الحديث من أيّ شيء يستظل والشمس قد كورت؟ أجاب بقوله تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) وبقوله تعالى : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) [يس : ٥٦] إذ لا يلزم من تكوير الشمس عدم الظل لأنه مخلوق لله تعالى وليس بعدم بل أمر وجودي له نفع بإذن الله تعالى في الأبدان وغيرها. فليس الظل عدم الشمس كما قد يتوهم ؛ وروى عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) قال شجرة في الجنة يخرج إليها أهل الجنة فيتحدّثون ، ويشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله تعالى عليهم ريحا من الجنة فتتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) أي : جار في منازلهم في غير أخدود لا يحتاجون فيه إلى جلب ماء من الأماكن البعيدة ولا إدلاء في بئر كأهل البوادي ، فإن العرب كانت أصحاب بادية وبلاد حارّة ، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك (فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) أي : أجناسها وأنواعها وأشخاصها (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) قال ابن عباس رضى الله عنهما : لا تنقطع إذا جنيت ، ولا تمتنع من أحد إذ أراد أخذها ، وقال بعضهم : لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان كما تنقطع أكثر ثمار الدنيا إذا جاء الشتاء ، ولا يتوصل إليها إلا بالثمن ؛ وقيل : لا يمنع من أرادها شوك ولا بعد ولا حائط بل إذا اشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها ، قال تعالى (قُطُوفُها دانِيَةٌ) [الحاقة : ٢٣] وجاء في الحديث : «ما قطع من ثمار الجنة إلا أبدل الله تعالى مكانها ضعفين» (١).

ولما كان التفكه لا يكمل الالتذاذ به إلا مع الراحة قال تعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) أي : رفيعة القدر يقال : ثوب رفيع ، أي : عزيز مرتفع القدر والثمن بدليل قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن : ٥٤] فكيف ظهائرها أو مرفوعة فوق السرر بعضها فوق بعض ؛ روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) قال : «ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام» (٢). قال : حديث غريب ؛ وقيل : هي كناية عن النساء كما كنى عنهن باللباس ، أي : ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن ، والعرب تسمى المرأة فراشا ولباسا على الاستعارة.

دليل هذا التأويل قوله تعالى : (إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة التي لا يتعاظمها شيء (أَنْشَأْناهُنَ) أي : الفرش التي معناها النساء من أهل الدنيا بعد الموت بالبعث وزاد في التأكيد فقال تعالى : (إِنْشاءً) أي : خلقا جديدا من غير ولادة بل جمعناهن من التراب كسائر بني آدم ، ليكونوا كأبيهم آدم عليه‌السلام في خلقه من تراب ، لتكون الإعادة كالبداءة ولذلك يكون الكل عند دخول الجنة على شكله عليه‌السلام ، وروى النحاس بإسناده أن أم سلمة سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) فقال : «هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا عمشا رمصا جعلهن الله تعالى بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء» (٣). وروى أنس بن مالك رضى

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٩٤.

(٣) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٤١٧ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٥٤٤ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٥١.

١٩٣

الله عنه يرفعه في قوله تعالى (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) قال : هن العجائز العمش الرمص كنّ في الدنيا عمشا رمصا. وعن المسيب بن شريك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) قال : «هن عجائز الدنيا أنشأهن الله تعالى خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا» فلما سمعت عائشة رضى الله عنها ذلك قالت واوجعاه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس هناك وجع» (١). وعن الحسن رضى الله عنه قال : أتت عجوز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال : «يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز ، قال : فولت تبكي ، فقال : أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً» (٢) (فَجَعَلْناهُنَ) أي : الفرش المنشآت وغيرهن بعظمتنا المحيطة بكل شيء (أَبْكاراً) أي عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن عذارى ولا وجع ؛ وذكر المسيب عن غيره : أنهن فضلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا ؛ وقال مقاتل وغيره : هن الحور العين أنشأهن الله تعالى لم تقع عليهن الولادة وقوله تعالى : (عُرُباً) جمع عروب كصبور وصبر وهي الغنجة المحببة إلى زوجها ، وقال الرازي في اللوامع : فطنة بمراد الزواج كفطنة العرب ؛ وقيل : الحسناء ؛ وقيل : المحسنة لكلامها ؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هن العواتق. وأنشدوا (٣) :

وفي الخباء عروب غير فاحشة

ريا الروادف يعشى دونها البصر

وقرأ حمزة وشعبة : بسكون الراء والباقون بضمها كرسل ورسل وفرش وفرش وقوله تعالى : (أَتْراباً) جمع ترب ، وهو المساوي لك في سنك لأنه يمس جلدهما التراب في وقت واحد ، وهو آكد في الائتلاف ، وهو من الأسماء التي لا تتعرّف بالإضافة ، لأنه في معنى الصفة إذ معناه مساويك ، ومثله : خدنك لأنه بمعنى مصاحبك ؛ قال القرطبي : سن واحد وهو ثلاث وثلاثون سنة ؛ يقال في النساء : أتراب ، وفي الرجال : أقران ؛ وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حدّ الفتى من النساء ، وانحطت عن الكبر ؛ وقال مجاهد : الأتراب الأمثال والأشكال. وقال السدّي : أتراب في الأخلاق لا تباغض فيهن ولا تحاسد ، وروى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا محجلين أبناء ثلاثين أو قال ثلاثا وثلاثين على خلق آدم عليه‌السلام ستون ذراعا في سبعة أذرع» (٤). وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مات من أهل الجنة من صغير وكبير يردون بني ثلاثين سنة في الجنة لا يزيدون عليها أبدا وكذلك أهل النار» (٥). وعن أبي سعيد الخدري : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم ، واثنان وسبعون ألف زوجة ، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء ، ينظر وجهه في خدّها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب ، وأنه ليكون عليها سبعون ثوبا ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك» (٦). وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٧ / ٢١١.

(٢) أخرجه ابن كثير في تفسيره ٨ / ٩ ، والبغوي في تفسيره ٧ / ١٩.

(٣) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٢٩٥ ، ٥ / ٢٤٣ ، والترمذي حديث ٢٥٤٦.

(٥) أخرجه البغوي في تفسيره ٤ / ١٩ ، وابن المبارك في الزهد ٢ / ١٢٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٩٣٤٤.

(٦) أخرجه الترمذي حديث ٢٥٦٢ ، وابن كثير في تفسيره ٧ / ٤٨٤ ، والبغوي في تفسيره ٧ / ١٩.

١٩٤

أدنى أهل الجنة منزلة وما منهم دنيء لمن يغدو عليه ويروح عشرة آلاف خادم مع كل واحد منهم ظريفة ليست مع صاحبه.

«وفي تعلق اللام في قوله تعالى : (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) وجهان أحدهما : أنّها متعلقة بأنشأناهن أي : لأجل أصحاب اليمين والثاني : أنها متعلقة بأترابا كقولك : هذا ترب لهذا أي : مساو له.

ثم بينهم بقوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي : من أصحاب اليمين (وَثُلَّةٌ) أي : منهم (مِنَ الْآخِرِينَ) فلم يبين فيهم قلة ولا كثرة ، قال البقاعي : والظاهر أنّ الآخرين أكثر فإن وصف الأولين بالكثرة لا ينافي كون غيرهم أكثر ليتفق مع قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن هذه الأمة ثلثا أهل الجنة فإنهم عشرون ومئة صف هذه الأمة منهم ثمانون صفا وأربعون من سائر الأمم» (١). وعن عروة بن رويم قال : لما نزل قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) بكى عمر وقال : يا نبيّ الله آمنا برسول الله وصدقناه ومن ينجو منّا قليل فأنزل الله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر فقال : «قد أنزل الله تعالى فيما قلت فقال عمر : رضينا عن ربنا وتصديق نبينا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من آدم إلينا ثلة ومنا إلى يوم القيامة ثلة ولا يستتمها الأسود من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله» (٢).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه : قال : «عرضت عليّ الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان ، والنبي معه الرهط ، والنبي ليس معه أحد ، ورفع إلي سواد عظيم فقلت إنهم أمتي ، فقيل لي : هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فتفرق الناس ، ولم يبين لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتذاكر أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أما نحن فولدنا في الشرك ولكنّا آمنا بالله ورسوله ، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا ، فبلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فقال : «هم الذين لا يتطيرون ، ولا يسترقون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال : ادع الله تعالى أن يجعلني منهم ، فقال : أنت منهم ثم قام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : سبقك بها عكاشة» (٣). والرهط دون العشرة وقيل إلى الأربعين. وعن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عرضت عليّ الأنبياء الليلة باتباعها حتى أتى على موسى في كبكبة بني إسرائيل فلما رأيتهم أعجبوني فقلت : أي رب من هؤلاء؟ قيل : هو أخوك موسى ومن معه من بني إسرائيل ، قلت : يا رب وأين أمتي؟ قيل : انظر عن يمينك فنظرت فإذا ظراب مكة قد سدّ بوجوه الرجال ، فقال : هؤلاء أمتك أرضيت؟ فقلت : رضيت رب ، قيل : انظر عن يسارك فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال ، فقيل : هؤلاء أمتك أرضيت؟ قلت : رب رضيت فقيل : إن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة لا حساب عليهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا ، وإن عجزتم

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ١ / ١٥٥.

(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٣) أخرجه البخاري في الطب حديث ٥٧٠٥ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٢٠ ، والترمذي في القيامة حديث ٢٤٤٦.

١٩٥

وقصرتم فكونوا من أهل الظراب ، فإن عجزتم فكونوا من أهل الأفق ، فإني قد رأيت أناسا يتهاوشون كثيرا» (١). وعن عبد الله بن مسعود قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قبة نحوا من أربعين فقال : «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا : نعم ، قال : أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا : نعم ، قال : والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر» (٢). وتقدم في الحديث المار أنهم ثلثا أهل الجنة ولا منافاة لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أولا بالقليل ثم أطلعه الله تعالى على الزيادة.

ولما أتم وصف أصحاب الجنة أتبعه أضدادهم بقوله تعالى : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ) أي : الجهة التي تتشاءم العرب بها ويعبر بها عن الشيء الأخس والحظ الأنقص قال البقاعي : والظاهر أنهم أدنى أصحاب المشأمة كما أن أصحاب اليمين دون السابقين من أصحاب الميمنة ثم عظم ذمهم ومصابهم فقال تعالى : (ما أَصْحابُ الشِّمالِ) أي : أنهم بحال من الشؤم هو جدير بأن يسأل عنه وسماهم بذلك لأنهم يأخذون كتبهم بشمالهم ثم بين متقلبهم وما أعدّ لهم من العذاب فقال تعالى : (فِي سَمُومٍ) أي : ريح حارة من النار تنفذ في المسام (وَحَمِيمٍ) أي : ماء حار بالغ في الحرارة إلى حدّ يذيب اللحم (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أي : دخان أسود كالحمم أي الفحم شديد السواد ؛ وقيل : النار سوداء وأهلها سود وكل شيء فيها أسود ؛ وقيل : اليحموم اسم من أسماء النار ؛ قال الرازي : وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائما لأنهم إن تعرضوا لمهب الهواء أصابهم السموم ، وإن استكنوا كما يفعل الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان بالكن يكونون في ظلّ من يحموم ، وإن أرادوا التبرّد بالماء من حرّ السموم يكون الماء من حميم فلا انفكاك لهم من العذاب ؛ أو يقال : أن السموم تضربه فيعطس وتلتهب نار السموم في أحشائه فيشرب الماء فيقطع أمعاءه فيريد الاستظلال بظل فيكون ذلك الظل اليحموم ؛ وذكر السموم والحميم دون النار تنبيها بالأدنى على الأعلى كأنه قال أبرد الأشياء في الدنيا حارّ عندهم فكيف أحرّها؟ وقوله تعالى (لا بارِدٍ) أي : ليروح النفس (وَلا كَرِيمٍ) أي : ليؤنس به ويلجأ إليه صفتان للظل كقوله تعالى : (مِنْ يَحْمُومٍ) وقال الضحاك : لا بارد أي : كغيره من الظلال بل حار لأنه من دخان شفير جهنم ولا كريم عذب ؛ وقال سعيد بن المسيب : ولا حسن منظره وكل شيء لا خير فيه ليس بكريم فسماه ظلا ونفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوى إليه من أذى الحرّ ، وذلك كرمه ليمحو ما في مدلول الظن من الاسترواح إليه ، والمعنى : أنه ظل حارّ ضارّ إلا أن للنفي في نحو هذا شأنا ليس للإثبات وفيه تهكم بأصحاب المشأمة وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة.

ثم بين استحقاقهم لذلك بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا) أي : في الدنيا (قبل ذلك) أي الأمر العظيم الذي وصلوا إليه (مُتْرَفِينَ) أي : أنهم إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا في سعة من العيش متمكنين في الشهوات مستمتعين بها متمكنين منها (وَكانُوا يُصِرُّونَ) أي : يقيمون

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٤٠١.

(٢) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٢١ ، والترمذي في الجنة حديث ٢٥٤٧.

١٩٦

ويديمون على سبيل التجديد لما لهم من الميل الجبلي إلى ذلك (عَلَى الْحِنْثِ) أي : الذنب ويعبر بالحنث عن البلوغ ومنه قولهم : لم يبلغوا الحنث ، وإنما قيل ذلك لأنّ الإنسان عند بلوغه إليه يؤاخذ بالحنث أي : الذنب ، وتحنث فلان أي : جانب الحنث ، وفي الحديث : «كان يتحنث بغار حراء» (١) أي : يتعبد لمجانبة الإثم نحو خرج فتفعل في هذه كلها للسلب.

ولما كان ذلك قد يكون من الصغائر التي تغفر قال تعالى : (الْعَظِيمِ) أي : وهو الشرك قاله الحسن والضحاك ؛ وقال مجاهد : هو الذنب الذي لا يتوبون منه ؛ وقال الشعبي : هو اليمين الغموس وهو من الكبائر يقال حنث في يمينه ، أي : لم يبرها ورجع فيها ، وكانوا يقسمون أن لا بعث وأنّ الأصنام أنداد الله تعالى فذلك حنثهم ، فإن قيل : الترفه هو التنعم وذلك لا يوجب ذمّا؟ أجيب : بأنّ الذمّ إنما حصل بقوله تعالى : (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) فإن صدور المعاصي ممن كثرت النعم عليه أقبح القبائح وفي الآية مبالغات ، لأنّ قوله تعالى : (يُصِرُّونَ) يقتضي أنّ ذلك عادتهم والإصرار مداومة المعصية ولأنّ الحنث أبلغ من الذنب لأن الذنب يطلق على الصغيرة ويدل على ذلك قولهم : بلغ الحنث أي : بلغ مبلغا تلحقه فيه الكبيرة ، ووصفه بالعظيم يخرج الصغائر فإنها لا توصف بذلك ؛ قال الرازي : والحكمة في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين وذلك تنبيه على أنّ الثواب منه فضل والعقاب منه عدل ، والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر لا يتوهم بالتفضل نقص وظلم ، وأما العدل إن لم يعلم سبب العقاب يظن أنّ هناك ظلما ، ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب اليمين (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) كما قال في السابقين لأنّ أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه.

(وَكانُوا) أي : زيادة على ما ذكر (يَقُولُونَ) أي : إنكارا مجددين لذلك دائما عنادا (أَإِذا) أي أنبعث إذا (مِتْنا وَكُنَّا) أي كونا ثابتا (تُراباً وَعِظاماً) ثم أعادوا الاستفهام تأكيدا لإنكارهم فقالوا : (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي : كائن وثابت بعثنا ساعة من الدهر وأكدوا ليكون إنكارهم لما دون ذلك بطريق الأولى وقرأ قالون أئذا بتحقيق الهمزة الأولى ، المفتوحة وتسهيل الثانية المكسورة وإدخال ألف بينهما وكسر الميم من متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئنا ، وقرأ ورش بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ولا إدخال بينهما وكسر ميم متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئنا مع النقل عن أصله ؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالاستفهام فيهما مع تسهيل الثانية إلا أنّ أبا عمرو يدخل بينهما ألفا فيهما وابن كثير لا يدخل ألفا وضما ميم متنا (أَوَآباؤُنَا) أي : أو تبعت آباؤنا (الْأَوَّلُونَ) أي : الذين قد بليت مع لحومهم عظامهم فصاروا كلهم ترابا ولا سيما أن حملتهم السيول ففرّقت أعضاءهم وذهبت بها في الآفاق ؛ فإن قيل : كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون من غير تأكيد بنحن؟ أجيب بأنه حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله تعالى : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨] لفصل لا المؤكدة للنفي ، وقرأ قالون وابن عامر : بسكون الواو من أو والباقون بفتحها.

ثم ردّ الله تعالى عليهم قولهم ذلك بقوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الوحي حديث ٣ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٦٠.

١٩٧

(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠))

(قُلْ) أي : لهؤلاء ولكل من كان مثلهم وأكد لإنكارهم (إِنَّ الْأَوَّلِينَ) أي : الذين جعلتم الاستبعاد فيهم وهم الآباء (وَالْآخِرِينَ) وهم الأبناء (لَمَجْمُوعُونَ) أي : في المكان الذي يكون فيه الحساب (إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ) أي : زمان (مَعْلُومٍ) أي : معين عند الله تعالى وهو يوم القيامة إذ هو من شأنه أن يعلم بما عليه من الأمارات والميقات ما وقت به الشيء من زمان أو مكان إلى حد (ثُمَّ إِنَّكُمْ) أي : بعد هذا الجمع (أَيُّهَا الضَّالُّونَ) أي : الذين غلبت عليهم الغباوة فهم لا يفهمون فضلوا عن الهدى ثم اتبع ذلك ما أوجب الحكم عليهم بالضلال فقال تعالى : (الْمُكَذِّبُونَ) بالبعث والخطاب لأهل مكة ومن في مثل حالهم (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) وهو من أخبث الشجر المر بتهامة ينبتها الله تعالى في الجحيم فهو في غاية الكراهة وبشاعة المنظر ونتن الرائحة وقد مرّ الكلام على ذلك في الصافات.

تنبيه : من الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر (فَمالِؤُنَ) أي : ملأ هو في غاية الثبات وأنتم في غاية الإقبال عليه مع ما هو عليه من عظيم الكراهة (مِنْهَا) أي : الشجر وأنثه لأنه جمع شجرة وهو اسم جنس ، قال البقاعي : وهم يكرهون الإناث فتأنيثه والله أعلم زيادة في تنفيرهم ؛ وقال الزمخشري : أنت ضمير الشجر على المعنى وذكره على اللفظ في قوله : (مِنْهَا) وعليه وهو لف ونشر مرتب (الْبُطُونَ) أي : يضطركم إلى تناول هذا الكريه حتى تملؤا بطونكم منه.

ثم لما بين أكلهم أتبعه مشربهم فقال تعالى : (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) أي : الأكل أو الزقوم (مِنَ الْحَمِيمِ) لأجل مرارته وحرارته يحتاجون إلى شرب الماء فيشربون من الماء الحار (فَشارِبُونَ) أي : منه (شُرْبَ الْهِيمِ) أي : الإبل العطاش وهو جمع هيمان للذكر وهيمى للأنثى كعطشان وعطشى ، والهيام : داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت أو تسقم سقما شديدا ؛ وقيل : إنه جمع هائم وهائمة من الهيام أيضا إلا أن جمع فاعل وفاعلة على فعل قليل نحو نازل ونزل وعائد وعود ؛ وقيل : إنه جمع هيام بفتح الهاء وهو الرمل غير المتماسك الذي لا يروى من الماء أصلا فيكون مثل سحاب وسحب بضمتين ثم خفف بإسكان عينه ثم كسرت فاؤه لتصح الباء كما فعل بالذي قبله ، والمعنى : أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل فإذا ملؤوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم

١٩٨

فيشربون منه شرب الهيم.

فإن قيل : كيف صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان فكان عطفا للشيء على نفسه؟ أجيب : بأنهما ليستا بمتفقتين من حيث إن كونهم شاربين الحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع أمعائهم أمر عجيب فشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضا فكانتا صفتين مختلفتين ؛ وقرأ نافع وعاصم وحمزة : بضم الشين والباقون بفتحها.

(هذا) أي : ما ذكر (نُزُلُهُمْ) أي : ما يعدّ لهم أول قدومهم مكان ما يعد للضيف أول حلوله كرامة له (يَوْمَ الدِّينِ) أي : الجزاء الذي هو حكمة القيامة وإذا كان هذا نزلهم فما ظنك بما يأتي بعد ما استقرّوا في الجحيم وفي هذا تهكم كما في قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١] فإن النزل ما يعد للنازل تكرمة له ثم استدل على منكري البعث بقوله تعالى : (نَحْنُ) أي : لا غيرنا (خَلَقْناكُمْ) أي بما لنا من العظمة (فَلَوْ لا) تحضيض ، أي : فهلا (تُصَدِّقُونَ) أي : بالبعث فإن الإعادة أسهل من الابتداء ؛ وقيل : نحن خلقنا رزقكم فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا ؛ ومتعلق التصديق محذوف تقديره : فلولا تصدّقون بخلقنا (أَفَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة (ما تُمْنُونَ) أي : تصبون من المنيّ في أرحام النساء (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) أي : توجدونه مقدرا على ما هو عليه من الاستواء ، والحكمة بعد خلقه من صورة النطفة إلى صورة العلقة ثم من صورة العلقة إلى صورة المضغة ثم منها إلى صورة العظام والأعصاب (أَمْ نَحْنُ) أي : خاصة (الْخالِقُونَ) أي الثابت لنا ذلك وقرأ أفرأيتم في الثلاثة مواضع نافع بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة ، ولورش وجه ثان وهو إبدالها ألفا ، وأسقطها الكسائي ، والباقون بالتحقيق ، وقرأ أأنتم في الثلاثة المواضع نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بخلاف عن هشام ، وأدخل بينهما ألفا ، قالون وأبو عمرو وهشام ، ولم يدخل بينهما ورش وابن كثير ولورش وجه ثان وهو إبدال الثانية ألفا والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال بينهما.

ولما كان الجواب قطعا أنت الخالق وحدك أكد ذلك بقوله تعالى : (نَحْنُ) أي : بما لنا من العظمة لا غيرنا (قَدَّرْنا) أي : تقديرا عظيما لا يقدر سوانا على نقص شيء منه ، (بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أي قسمنا عليكم فلم نترك أحدا منكم بغير حصة منه ، وأقتنا موت كل بوقت معين لا يتعداه ، فقصرنا عمر هذا وربما كان في الأوج من قوّة البدن وصحة المزاج فلو اجتمع الخلق كلهم على إطالة عمره ما قدروا أن يؤخروه لحظة ، وأطلنا عمر هذا وربما كان في الحضيض من ضعف البدن واضطراب المزاج فلو تمالؤا على تقصيره طرفة عين لعجزوا.

وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بالتشديد (وَما نَحْنُ) أي : على ما لنا من العظمة (بِمَسْبُوقِينَ) أي : بالموت أي : لا عاجزين ولا مغلوبين (عَلى) أي : عن (أَنْ نُبَدِّلَ) أي تبديلا عظيما (أَمْثالَكُمْ) أي : صوركم وأشخاصكم (وَنُنْشِئَكُمْ) أي إنشاء جديدا بعد تبديل ذواتكم (فِي ما لا تَعْلَمُونَ) فإنّ بعضكم تأكله الحيتان أو السباع أو الطيور فننشئ أبدانه منها ، وبعضهم يصير ترابا فربما نشأ منه نبات فأكلته الدواب فنشأت منه أبدانها وربما صار ترابه من معادن الأرض الذهب والفضة والحديد والنحاس والحجر ونحو ذلك وقد لمح إلى ذلك قوله تعالى : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) [الإسراء : ٥٠] إلى آخرها ويكون المعنى كما قال البغوي : نأت بخلق مثلكم بدلا منكم ونخلقكم فيما لا تعلمون من الصور أي : بتغيير أوصافكم وصوركم

١٩٩

إلى صور أخرى بالمسخ ومن قدر على ذلك قدر على الإعادة وقال الطبري : معنى الآية نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم ، وما نحن بمسبوقين في آجالكم أي : لا يتقدّم متأخر ولا يتأخر متقدم ، وننشئكم فيما لا تعلمون من الصور وقال الحسن : أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم ، وقيل : المعنى : ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا فنجمل المؤمن ببياض وجهه ونقبح الكافر بسواد وجهه «فائدة» في ما مقطوعة في الرسم.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) أي : الترابية لأبيكم آدم عليه‌السلام ، واللحمية لأمكم حواء رضى الله عنها والنطفية لكم وكل منها تحويل من شيء إلى آخر غيره ، فما الذي شاهدتم قدرته على ذلك لا يقدر على تحويلكم بعد أن تصيروا ترابا إلى ما كنتم عليه أولا من الصور ولهذا سبب عما تقدم قوله تعالى : (فَلَوْ لا) أي : فهلا ولم لا (تَذَكَّرُونَ) أي تذكرا عظيما تكرهون أنفسكم عليه فتعلمون أن من قدر على النشأة الأولى قدر على الثانية فإنها أقل ضعفا لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثال وفيه دليل على صحة القياس ، وفي الخبر عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى ، وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور ؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشأة بفتح الشين وبعدها ألف قبل الهمزة والباقون بسكونها ولا ألف بعدها ، فإذا وقف حمزة نقل حركة الهمزة إلى الشين وخفف ذال تذكرون حمزة والكسائي وحفص ، وشدّدها الباقون.

ثم ذكر لهم حجة أخرى بقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما نبهناكم عليه فيما تقدم فتسبب عن تنبيهكم لذلك أنكم رأيتم (ما تَحْرُثُونَ) أي : تجددون حرثه على الاستمرار من أراضيكم فتطرحون فيه البذر (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أي : تنشئونه بعد طرحكم وتجعلونه زرعا فيكون فيه السنبل والحب (أَمْ نَحْنُ) خاصة (الزَّارِعُونَ) أي : المنبتون له والحافظون ؛ روى أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لا يقولنّ أحدكم زرعت وليقل حرثت» (١). قال أبو هريرة أرأيتم إلى قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ) الآية.

ولما كان الجواب قطعا أنت الفعال لذلك وحدك قال تعالى موضحا لأنه ما زرعه غيره (لَوْ نَشاءُ) أي : لو عاملناكم بصفة العظمة (لَجَعَلْناهُ) أي : بتلك العظمة (حُطاماً) أي : مكسورا مفتتا لا حب فيه قبل النبات حتى لا يقبل الخروج أو بعده ببرد مفرط أو حر مهلك أو غير ذلك فلا ينتفع به (فَظَلْتُمْ) أي فأقمتم بسبب ذلك نهارا في وقت الأشغال العظيمة وتركتم ما يهمكم (تَفَكَّهُونَ) حذفت منه إحدى التائين في الأصل تخفيفا أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم وقيل : تندمون على ما سلف منكم من المعاصي التي أوجبت تلك العقوبة قال الزمخشري : ومنه الحديث : «مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء فبينما هم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكهون» (٢). أي : يتندمون. وقال الكسائي : التفكة التلهف على ما فات من الأضداد ، تقول

__________________

(١) أخرجه ابن حجر في فتح الباري ٥ / ٤ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ٨ / ٢٦٧ ، وابن حبان في صحيحه ٥٧٢٣ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٦ / ١٣٨.

(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٢٠٠